حرب لبنان وغزة- حسابات إسرائيلية معقدة ومآلات غامضة

المؤلف: أحمد الحيلة10.26.2025
حرب لبنان وغزة- حسابات إسرائيلية معقدة ومآلات غامضة

في تصريح مدوٍ لقناة الجزيرة في الرابع من يونيو/حزيران الجاري، أكد نعيم قاسم، القيادي البارز في حزب الله، أن المقاومة اللبنانية على أهبة الاستعداد لمواجهة أي حرب شاملة قد تشنها إسرائيل. وأضاف قاسم بلهجة واثقة أن أي توسع إسرائيلي في نطاق الحرب على لبنان سيواجه برد مزلزل، يتمثل في خراب واسع النطاق، ودمار هائل، وتهجير جماعي داخل إسرائيل. وشدد على أن المقاومة لن تدخر جهدًا لمنع إسرائيل من تحقيق أي نصر، مؤكدًا في الوقت ذاته أن حزب الله لا يسعى إلى توسيع دائرة الحرب، ولكنه سيخوضها ببسالة إذا ما فُرضت عليه فرضًا.

على مدى الأشهر الثمانية الماضية، كثفت إسرائيل من مناوراتها العسكرية في شمال فلسطين المحتلة، وأطلقت العنان لسيل من التهديدات النارية على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، بالإضافة إلى وزراء آخرين مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وفي سياق مماثل، أبلغ وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس نظيره الفرنسي ستيفان سيجورنيه في الأول من مايو/أيار الماضي، بأنه في حال لم ينسحب حزب الله من شمال نهر الليطاني، فإن إسرائيل ستكون على شفا حرب شاملة معه.

في المقابل، شهدت عمليات حزب الله تصاعدًا ملحوظًا واتساعًا في نطاقها. وأصبح من المستبعد، إن لم يكن من المستحيل، أن يتراجع حزب الله عن التضامن مع غزة، خاصة بعد أن تجسدت على أرض الواقع مصداقية التصريحات التي أدلى بها السيد حسن نصر الله ونائبه الشيخ نعيم قاسم، والتي تؤكد على ترابط المسارات بين بيروت وغزة، وأن وقف الاشتباكات لن يتحقق إلا بوقف العدوان على غزة. وقد حمل المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين هذه الرسالة بوضوح خلال جولاته المكوكية بين بيروت وتل أبيب، في محاولة للوساطة ووقف إطلاق النار.

على الرغم من إخفاقاته المتتالية في تحقيق أهدافه المعلنة، لا يزال بنيامين نتنياهو يصر على رفض وقف إطلاق النار الدائم في قطاع غزة، وقد عبّر عن ذلك في مناسبات عديدة ومن خلال سلوكه السياسي تجاه جهود الوساطة المصرية والقطرية. بل إن نتنياهو ووزراء حكومته شككوا في المقترح الذي قدمه الرئيس الأميركي جو بايدن في خطابه في 31 مايو/أيار الماضي، والذي زعم أنه يمثل ورقة إسرائيلية تسعى إلى وقف إطلاق النار، واتهموا بايدن بأنه لم ينقل التصور الإسرائيلي بدقة وأساء تفسيره. وفي وقت لاحق، امتنعت تل أبيب عن إبداء موافقتها على قرار مجلس الأمن الدولي الداعي إلى وقف إطلاق النار كهدف، بغض النظر عن التفاصيل والآلية التي تتيح للاحتلال فرصة التملص من وقف العدوان الدائم على غزة.

إن استمرار إسرائيل في رفض وقف إطلاق النار الدائم والانسحاب الشامل من قطاع غزة، يعني أن الحرب والعدوان على القطاع جنوبًا، والاشتباكات مع حزب الله شمالًا، لن تتوقف. وهذا الأمر ستكون له تداعيات وخيمة وتكاليف باهظة على جميع الأطراف، بما في ذلك إسرائيل. فعلى الصعيد الاجتماعي، ارتفع عدد النازحين الإسرائيليين إلى حوالي ربع مليون، أي ما يعادل 4% من السكان. كما ارتفعت الفاتورة الاقتصادية المباشرة للعدوان على غزة إلى حوالي 60 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى، وتراجع الناتج القومي بنسبة 22%.

تفاقمت معاناة الضباط والجنود في الجيش الإسرائيلي المنهك منذ ثمانية أشهر، حيث تم تدمير وإعطاب حوالي 45% من الآليات الثقيلة للجيش خلال المعارك في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمرضى النفسيين، واستدعاء حوالي 300 ألف جندي احتياطي دون أفق زمني محدد. ومن المتوقع أن يحتاج الجيش إلى استدعاء حوالي 50 ألف جندي آخر، مما سيفاقم الخلافات الداخلية بين المعارضة والحكومة، خاصة بعد أن نجح نتنياهو وحلفاؤه المتطرفون، مثل الوزيرين سموتريتش وبن غفير، في تمرير قانون التجنيد بالقراءة الأولى عبر الكنيست، والذي يعفي المتدينين الحريديم (الذين يمثلون 13% من السكان) من الخدمة العسكرية.

حسابات معقدة ومآلات غامضة

أعلن حزب الله في مناسبات عديدة أنه لا يسعى إلى حرب واسعة أو إقليمية. وفي هذا السياق، فإن سلوكه العسكري، على الرغم من ارتفاع مستوى التصعيد، لا يزال يتعامل مع جيش الاحتلال وفق معادلات وقواعد اشتباك متطورة ومتغيرة تفرضها وقائع الميدان، ولكنها تبقى دون الانزلاق إلى حرب موسعة.

في المقابل، تواصلت التهديدات الإسرائيلية والمناورات العسكرية والعمليات اللوجيستية في الميدان مع الحدود اللبنانية، ولكنها لم تصل بعد إلى مستوى إعلان الحرب أو الهجوم الواسع على حزب الله. ويبقى السؤال: هل يمكن أن تذهب إسرائيل إلى حرب موسعة ضد حزب الله؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف على العديد من العوامل الكابحة والدافعة لمثل هذه المخاطرة الحساسة. ومن العوامل الكابحة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

أولًا: أن إسرائيل غارقة في غزة

فهي فاشلة في تحقيق أهدافها هناك، وتعاني من حرب استنزاف قد تطول حسب تقديرات أجهزة المخابرات الأميركية والمؤسسات الإسرائيلية الفنية كالجيش والأجهزة الأمنية. وإذا كانت إسرائيل عاجزة عن الحسم أو تحقيق النصر في غزة، فكيف لها أن تنتصر على حزب الله، وهو الأقوى تسليحًا كمًا ونوعًا، ويتحرك في بيئة جغرافية تمنحه فضاءً وتساعده على المناورة وتوفر له دعمًا لوجيستيًا هامًا؟

ثانيًا: واشنطن لا تريد الحرب الواسعة ضد حزب الله

تخشى واشنطن من تداعيات الحرب، لأنها ستفرض عليها الانتصار لإسرائيل عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وهذا يشكل تحديًا أمام الإدارة الأميركية التي تخوض انتخابات رئاسية، حيث يعاني الرئيس بايدن من تراجع شعبيته في ظل الانتقادات الحادة له من شرائح واسعة من الشباب الأميركي والأقليات المسلمة والعربية والملونين والليبراليين، بسبب دعمه لإسرائيل في حربها المجنونة ضد المدنيين في قطاع غزة والتي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

ثالثًا: لا تريد واشنطن تحول الحرب الواسعة ضد حزب الله إلى حرب إقليمية

تخشى واشنطن تحول الحرب إلى حرب إقليمية بدخول دول وكيانات سياسية أخرى في المعركة في سوريا والعراق وشرق المتوسّط، ودخول إيران على خطّ الدعم المباشر لحلفائها في هذه المعركة، ما يهدد استقرار المنطقة برمّتها ويعرّض مصالح العديد من الدول للخطر، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي ستجد نفسها طرفًا مباشرًا في المعركة، وهذا يتعارض مع أولوياتها في التفرغ للصعود الصيني والتمدد الروسي في أوكرانيا وشرق أوروبا.

رابعًا: اضطراب الجبهة الداخلية الإسرائيلية اجتماعيًا وسياسيًا

حيث الخلافات على هوية الدولة بين العلمانية والدينية والخلافات على إعفاء المتدينين الحريديم من التجنيد وتعالي أصوات عائلات الجنود ودعوة أبنائهم لترك الجيش والتمرّد، إضافة إلى اتهام قطاع واسع جدًا من المعارضة لبنيامين نتنياهو بأنه يخوض حربًا باسم إسرائيل لحسابات شخصية وسياسية تتعلق به وبحلفائه في الحكومة من التيار القومي الديني المتطرف أمثال وزير المالية سموتريتش ووزير الأمن القومي بن غفير.

في المقابل، هناك بعض المعطيات التي يمكن أن تحفز بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف على الحرب ضد حزب الله، ومنها:

  • السعي لاستعادة الردع العسكري والأمني المتآكل بعد تعثر جيش الاحتلال في حربه على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول (معركة طوفان الأقصى)، وهو الأمر الذي يزداد ويتعمق مع الوقت، وقد يظن نتنياهو وحلفاؤه المتطرفون من حوله أنهم قادرون على الإنجاز، عبر معركة هجومية ضد حزب الله، بدفع قوات الرضوان الخاصة لحزب الله بالابتعاد عن حدود فلسطين الشمالية حتى الليطاني بموجب القرار الأممي 1701، مظنة أن هكذا هدف يمكن تحقيقه بالضغط العسكري بعد أن فشل المسار السياسي، ومن ثم فصل المسار بين بيروت وغزة.
  • تأمين عودة النازحين الإسرائيليين إلى مستوطناتهم في الشمال، وهو ما بات يؤرق القيادة السياسية؛ بسبب ضغط العائلات النازحة، واتساع التذمر في عموم الجبهة الداخلية التي تتهم القيادة السياسية بالفشل، وبأن عليها أن تؤمن عودتهم بالقوة، حيث يؤيد نحو 55% من الإسرائيليين المستطلعة آراؤهم عملية عسكرية واسعة ضد حزب الله.
  • صحيح أن الإدارة الأميركية ترفض الحرب الموسعة ضد حزب الله، خشية تداعياتها على الانتخابات الأميركية وعلى مصالحها الإقليمية والدولية، ولكن نتنياهو واليمين المتطرف قد يرون في ضعف الإدارة الأميركية في فترة الانتخابات وحاجتها لدعم اللوبيات الصهيونية في واشنطن، فرصة لابتزازها واستمرار دعمها لإسرائيل إذا ذهبت إلى لبنان في حرب موسعة. الهجوم على حزب الله قد يطيل أمد المعركة، وهذا فيه مصلحة شخصية لبنيامين نتنياهو لاستمرار وجوده في السلطة، وقد يعطيه فسحة للبحث عن انتصار متوهم أو متخيل.

لا شك أن التحديات وعوامل الكبح للحرب الواسعة ضد حزب الله هي الأقوى، ولكن لا بد من النظر إلى أن من يحكم إسرائيل الآن هم ساسة متطرفون لهم قناعات وأهداف سياسية أيديولوجية أشبه بالأساطير، فهؤلاء يعتقدون بأنهم قادرون على تحقيق إرادة الرب، بقتل أكبر عدد من الفلسطينيين والعرب، لتحقيق سيطرتهم المطلقة على أرض فلسطين، وأن المعركة الجارية قد تشكل لهم فرصة لاستكمال ما يتطلعون له من إبادة أو تهجير لمن تبقى من الفلسطينيين في أرضهم، وهذا يستلزم في ظنهم فصل المسار بين حزب الله وحماس أو بين بيروت وغزة.

إن لم تكن الحرب قرارًا سياسيًا للاحتلال نتيجة العوامل المشار إليها آنفًا، يبقى خطر الانزلاق إلى معركة غير مخطط لها، مع طول أمد القتال، أمرًا واردًا. فإقدام الاحتلال على اغتيال مسؤول القطاع الشرقي في حزب الله؛ طالب سامي عبد الله مع ثلاثة آخرين من الحزب في 12 يونيو/حزيران الجاري، كان نموذجًا لما يمكن أن يقع فيأخذ المشهد إلى مزيد من التصعيد تراكميًا، فحزب الله اضطر لأن يرد مباشرة على هذا الاغتيال بعمليات أولية قوية، وبرشقة صاروخية قوامها نحو 170 صاروخًا، استهدفت نحو 80 موقعًا حتى وصلت طبريا وصفد، وهي الدفعة الكبرى والأعنف منذ معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

نموذج تلك العمليات المتبادلة، في وقت تدور فيه الأحداث في حلقة من النار والقتال الشرس، دون وجود مخارج سياسية تحفظ للفلسطينيين الحد الأدنى من مطالبهم بوقف العدوان على قطاع غزة وانسحاب جيش الاحتلال بالكامل منه، يضع المنطقة على حافة صراع طويل، يصعب التكهن بمآلاته مع طول الزمن، وتسارع الأحداث، وكثرة اللاعبين السياسيين من دول وكيانات سياسية لا دولتية كحزب الله وحركة حماس التي يحكمها منطق الثورة والتمرّد على قواعد العمل السياسي والعسكري الذي تخضع له الدول بمعاييرها الكلاسيكية، وهذا ما يجعل إسرائيل أمام خيارات معقدة وصعبة وهي تواجه نمطًا مختلفًا من العمليات القتالية التي لم تعتدْ عليها في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة